عيادة المريض سنة مؤكدة، وقد رأى بعض العلماء وجوبها. قال البخاري في صحيحه: باب وجوب عيادة المريض. ولكن الجمهور على أنها مندوبة أو فرض على الكفاية، وقد ورد في فضلها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع" رواه مسلم. (الخرفة: اجتناء ثمر الجنة) logo إذا ضعفت العقيدة في القلوب ضعف العمل، فإذا رأيت الذي يكون ضعيفا في عباداته، في صلواته وزكواته وما إلى ذلك، فاعلم أن ذلك لضعف في عقيدته بالأساس.فالعقيدة حقيقة إذا امتلأ بها القلب ظهرت آثارها على الجواربالوقوف قائما أو عدم الاستظلال أو بترك الكلام فهذا ليس فيه طاعة الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه لم يوجد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل في بدعة ولا خالف السنة ولا جماعة المسلمين،ولا خرج على أئمة الدين بل الصحابة كلهم عدول؛ وذلك لأنهم تلقوا الوحي من النبي مباشرة فوصل الإيمان إلى قلوبهم، فلم يكن إيمانهم عن تقليد بل عن فقه واتباع. اختار بعض العلماء أن وقت الختان في يوم الولادة، وقيل في اليوم السابع، فإن أخر ففي الأربعين يوما، فإن أخر فإلى سبع سنين وهو السن الذي يؤمر فيه بالصلاة، فإن من شروط الصلاة الطهارة ولا تتم إلا بالختان، فيستحب أن لا يؤخر عن وقت الاستحباب.أما وقت الوجوب فهو البلوغ والتكليف، فيجب على من لم يختتن أن يبادر إليه عند البلوغ ما لم يخف على نفسه
shape
محاضرات بعنوان: عناية السلف بالحديث الشريف
17113 مشاهدة print word pdf
line-top
الحافظ البخاري وأثره في الحديث

ثم في القرن الثالث جاء دور أهل الكتب الستة. كتبوا كتبهم الستة التي اقتصروا فيها على الأحاديث النبوية المرفوعة.
أشهرهم البخاري محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة كان أصله؛ أجداده من المجوس. جده الثالث الذي يسمى بردزبة مجوسي. أسلم على يد رجل من بني جُعف فصار ينسب إليهم يقال له: الجعفي، وإلا فأصله ليس من العرب. نشأ في بخارى واهتم بحفظ الأحاديث، ورزقه الله تعالى حفظا وفهما، فكان يشتغل بحفظ الأحاديث، وسافر إلى العراق ومصر والشام والحجاز واليمن والبحرين ونحوها، ورزقه الله تعالى حفظا للأحاديث.
ذكروا عنه أنه يقول: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح. يعني: لم يقتصر على حفظ الأحاديث الصحيحة. حفظ الأحاديث التي ليست صحيحة؛ حتى يعرفها وحتى يحذر تلاميذه منها. ولد رحمه الله سنة مائة وتسعين، ومات سنة مائتين وست وخمسين؛ فلما اهتم بالأحاديث وفقه الله تعالى لحفظ السنة.
علم أن في هذه الأحاديث التي تروى وتتداول ما هو صحيح ثابت قوي، وما هو دون ذلك، وما هو ضعيف، وما هو مكذوب؛ فأراد أن ينقي الأحاديث الصحيحة، فجمعها في صحيحه. جمعها في هذا الكتاب.
صحيح البخاري لو أنصفوا لما خط إلا بماء الذهب، وانتقى تلك الأحاديث بأصح الأسانيد، ولكنه رحمه الله جعل كتابه كتاب فقه وكتاب حديث؛ مع كونه انتقى الصحيح، ولكنه جعل فيه أحكاما كثيرة فكان يستنبط من الحديث عدة فوائد؛ يجعل كل فائدة تحت باب. ربما كرر الحديث لأجل الفوائد التي فيه فيذكر الحديث عشر مرات أو أكثر أو أقل في عشرة أبواب، ويذكر في كل باب فائدة تؤخذ في ذلك الباب.
فجمع كتابه بين الفقه وبين الحديث. يذكر الباب، ثم يذكر تحته حديثا فيه ذِكْر شيء مما يدل على تلك الترجمة، وقد يذكر حديثا في الترجمة، ولا يكون صحيحا على شرطه، ويجد حديثا على شرطه يدخل في تلك الترجمة.
من تراجمه قال: باب: اثنان فما فوقهما جماعة ثم روى حديث مالك بن الحويرث وفيه إذا حضرت الصلاة فأذِّنا وأقيما وليؤمكما أكبركما يخاطب اثنين وليؤمكما أكبركما استنبط منه أن الاثنين جماعة؛ واحد إمام وواحد مأموم. نظرنا وإذا هنا حديث بلفظ الترجمة اثنان فما فوقهما جماعة رواه ابن ماجه في سننه؛ فيدل على أنه رحمه الله كان دقيق الاستنباط.
ولكن لما كان يكرر الحديث في أبواب كثيرة، ويذكره في تلك المواضع شق جمع أحاديثه وجمع رواياته على كثير من الطلاب، ولكن مع ذلك يجدونه في الباب الذي هو مظنته. طبع الكتاب، وشرح مرارا عديدة. كان بعض المتقدمين يقولون: إن شرح البخاري لا يزال ديْنا على المسلمين؛ لا يزال دينا عليهم. يعني أنهم ما خدموه الخدمة الواجبة، ثم كان من الذين شرحوه في القرن التاسع الحافظ ابن حجر صاحب فتح الباري، وكذلك فيقول بعض العلماء: لو أدرك ذلك السلفي هذين الشرحين لعلم أن الأمة قد قامت بقضاء ذلك الدين؛ الذي هو دين على العلماء. فصحيح البخاري كتبه من حفظه، وكتبه أيضا مما تلقاه من علماء أهل زمانه؛ فأصبح أصح الأحاديث، وتلقته الأمة بالقبول، وقدموه على غيره، وصاروا يرجعون إليه.
ابتدأه -رحمه الله- بحديث: الأعمال بالنيات إشارة إلى أنه عمله بنية صادقة صالحة، وهي أنه نوى به الخير؛ نوى به الأجر وحفظ السنة؛ نية صادقة فوفقه الله، وجعل في مقدمته أحاديث تتعلق بصفة نزول الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ستة أحاديث بعد حديث: الأعمال بالنيات .
توضيح الخلاف الذي حدث بين الحنفية وأهل السنة في مفهوم الإيمان
ثم ذكر بعده كتاب الإيمان؛ وذلك لأن الإيمان وقع فيه خلاف مع بعض من ينتسب إلى الإسلام؛ مع المرجئة الذين يقال لهم: مرجئة الفقهاء وهم الحنفية.
لفظ الإيمان لفظ شرعي؛ لفظة شرعية. الإيمان في لغة العرب؛ في كلام العرب معناه التصديق الجازم، ولكن الشرع. النبي -صلى الله عليه وسلم- أدخل عليه زيادات، فجعل الأعمال كلها داخلة في الإيمان في قوله: الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة. أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان .
فأصبح الإيمان مسمى شرعيا بدل ما كان مسمى لغويا، فعرفه أهل السنة فقالوا: (الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان. يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان) واستدلوا بهذا الحديث؛ فإن قول: لا إله إلا الله كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- جعله أعلى شعب الإيمان مع أنه لفظ؛ لكن ذلك اللفظ لا بد فيه من الاعتقاد، وهو أن يعتقد أن الله تعالى هو الإله الحق، وأن الإلهية لا تصلح إلا لله سبحانه وتعالى.
كذلك إماطة الأذى عن الطريق فعل؛ يعني: عمل بدني، ومع ذلك عدَّه من شعب الإيمان. الحياء عمل قلبي عدَّه أيضا من شعب الإيمان؛ فدل على أن الإيمان تدخل فيه الأعمال.
الأعمال الصالحة هي من مسمى الإيمان فأصبح الإيمان مسمى شرعيا. الشرع نقل كثيرا من اللغويات، وجعل لها مسمى شرعيا لا تعرفه العرب بلغتها؛ فمن ذلك (الإحسان) في اللغة إتقان الشيء. في الحديث: رحم الله من صنع صنعة فأتقنها يعني: أحسنها. فسره النبي -صلى الله عليه وسلم- تفسيرا شرعيا بقوله: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك أصبح مسمى شرعيًّا.
وكذلك الإسلام. الإسلام عند العرب كلمة يريدون بها الإذعان والانقياد، يقولون: (استسلم البعير) يعني: انقاد. البعير المسلم هو الذلول الذي لا يستعصي على من يركبه. يسمى بعيرا مسلما. أي مذعنا، ولكن النبي
-صلى الله عليه وسلم- نقل اسمه إلى الاستسلام لله تعالى، والإتيان بالعلامات التي هي أركان الإسلام الخمسة: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا فهذا مسمى الإسلام.
وكذلك مسمى التوحيد. التوحيد عند العرب لفظ يدل على الواحد، ولكن الشرع استعمله في الإخلاص؛ إخلاص العبادة لله وحده؛ صرف جميع أنواع العبادة لله وحده، وكذلك أيضا ضد هذا. الكفر عند العرب كلمة تدل على الستر؛ ستر الشيء، ولكن جاء في الشرع بمعنى إنكار الدين، وجحد الرسالة، وجحد وحدانية الله. فهذا هو الكفر.
الشرك عند العرب كلمة تدل على المشاركة. يعني الاشتراك بين اثنين أو بين جماعة، ومنه سميت الشركة؛ لأنه يشترك فيها مجموعة. يتصرفون فيها أو يشتركون في رأس المال. الشرك في لغة الشرع؛ الشرك في الشرع يراد به جعل شريك لله تعالى في استحقاق العبادة، أو صرف بعض أنواع العبادات لغير الله تعالى؛ ليكون ذلك المخلوق شريكا للخالق.
النفاق عند العرب معناه إخفاء الشيء، ومنه تسمية نافقاء اليربوع، وأما في لسان الشرع فهو يريد به إخفاء الكفر وإظهار الإيمان.
لما كان كذلك ظن أبو حنيفة أن الإيمان هو التصديق فقط؛ فعند ذلك صرح لتلاميذه أن الأعمال زائدة على الإيمان، وأن الإيمان هو مجرد التصديق، ولكنه يريد التصديق الجازم الذي يكون له ثمرة وهي العمل. الذين يقلدون أبا حنيفة تمسكوا بما روي عنه تمسكا زائدا بحيث إنهم لا يذكرون إلا قوله؛ سواء في العقيدة أو في الفروع، فصار الناس يخالفونهم. يعني: الذين ليسوا على معتقد أبي حنيفة ويسمونهم مرجئة الفقهاء، ويحذرون من سماع أقوالهم؛ وذلك لأنهم يسهلون في أمر المعاصي. إذا لم يجعلوها داخلة في اسم الإيمان؛ إذ لم يجعلوا المعاصي منقصة لاسم الإيمان ولا الطاعات زائدة في الإيمان صار الإيمان عندهم التصديق، فلا تضره المعاصي ولا يضره ترك الطاعات فلا جرم. سهلوا لكثير من أتباعهم ترك الطاعات وفعل المعاصي، وقالوا: إنها لا تنقص الإيمان؛ فلذلك حذر منهم العلماء.
مع كونهم فقهاء، ومع كونهم من أهل الإسلام ومن أهل السنة، ولكن في هذا خالفوا أهل السنة، وقد جاء عنهم أحاديث كثيرة تحذر من الانخداع بهم، ولكنها موقوفة أو مقطوعة من كلام العلماء. من أراد الاطلاع عليها يجدها في كتاب السنة للخلَّال الأقسام المطبوعة، فإنه -رحمه الله- أطال في ذكر الآثار التي تحذر من المرجئة، وتبين خطأهم؛ لأنهم يقولون مثلا: الإنسان إذا عصى؛ لو أكل الربا أو زنى أو شرب الخمر أو قتل أو قذف أو سرق ما نقص إيمانه. إيمانه الذي في القلب ما ينقص بهذه المحرمات، وكذلك لو منع الزكاة أو ترك الصلاة أو أفطر في رمضان بغير عذر، أو نحو ذلك ما نقص إيمانه؛ لأن الإيمان في القلب وهو التصديق.
ولا شك أن هذا فتح لباب المعاصي وتسهيل في أمرها، وإيقاع للناس في المحرمات؛ مع أن المعاصي -كما يقول بعض العلماء- بريد الكفر. يعني أنها مقدمة بين يدي الكفر، وأن الذي يفعل المعصية لا يؤمَن عليه أن يجذبه ذلك إلى أن يقع في الكفر أو في مقدماته.
ولما اشتهر هؤلاء المرجئة في زمن البخاري وما بعده، وكانوا خطرا على الناس في تسهيلهم أمر المعاصي وترك الطاعات؛ تجنب البخاري الرواية عنهم، فذكروا عنه أنه قال: رويت في هذا الكتاب عن نحو ثلاث مائة راوٍ -شيخ- كلهم يقولون: الإيمان قول وعمل يعني أنه ما روى عن الذين يقولون: الإيمان هو التصديق؛ بل جعل رواياتهم عن الذين يقولون: الإيمان قول وعمل؛ مشائخه الذين روى عنهم. تجنب أهل هذه البدعة؛ المرجئة؛ مع أن فيهم محدثون وعلماء ومشاهير، ولكنه ما رأى الرواية عنهم اطِّراحا لشأنهم وتصغيرا لأمرهم.
والحاصل أنه بدأ بعد المقدمة بكتاب الإيمان، وذكر فيه الأدلة التي تدل على الإيمان، فيقول مثلا: باب: الصلاة من الإيمان؛ مع أنها عمل ولكنها داخلة في الإيمان. باب: الزكاة من الإيمان؛ مع أنها دفع مال ولكنها داخلة في مسمى الإيمان، باب: الجهاد من الإيمان. باب: الصبر من الإيمان، وباب: أداء خمس الغنيمة من الإيمان ، وأشباه هذه الأبواب ليبين بها معتقد أهل السنة؛ أن الأعمال من مسمى الإيمان، وذكر أيضا الأحاديث التي فيها أن الإيمان هو الاعتقاد وكيف تُحمَل.
وذكر في كتاب الإيمان حديث جبريل المشهور، ولكنه لم يكن إسناد حديث عمر على شرطه، فلم يروه عن عمر وإنما رواه عن أبي هريرة الحديث الذي فيه يقول أبو هريرة كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما بارزا للناس، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله ما الإسلام؟ فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت. فقال: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره؛ فقال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإنك إلا تراه فإنه يراك. فقال: أخبرني متى الساعة؟ فقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. في خمس لا يعلمها إلا الله، وقرأ قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ إلى آخر الآية. فقال: أخبرني عن أشراطها. فقال: أن تلد الأمة ربها، أن ترى الحفاة العراة العالة يتطاولون في البنيان. ثم انطلق الرجل فقال: ردوه، فذهبوا فلم يروا شيئا، فقال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم .
في هذا الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- فرق بين الإسلام والإيمان، وهذا من أدلة المرجئة؛ أن الإيمان هو الاعتقاد، ولكن العلماء يقولون: إن هذا فيما إذا ذكرا معا؛ إذا ذكرا جميعا -الإسلام والإيمان- فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، وفسر الإيمان بأعمال القلب؛ فهاهنا جعل الإسلام هو الأعمال الظاهرة، فالشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج هذه هي الإسلام؛ وذلك لأنه يأتي بها علنا فيظهر منه الاستسلام والانقياد؛ لأنه مثلا إذا سمع المؤذن جاء إلى المسجد، وكأنه يقاد؛ كأن هناك حبل يقاد به وهو مطيع مستسلم لمن يقوده، والذي يقوده هو الإيمان وهو التصديق وهو الرجاء؛ رجاء الأجر والثواب.
وكذلك البعير -مثلا- إذا كان مستسلما؛ إذا كان مسلما فإنه جاء في حديث: مثل المسلم أو المؤمن كمثل الجمل الأُنُف -يعني الجمل الذلول- إن قيد انقاد، وإن أنيخ ولو على صخرة استناخ فكذلك المسلم يقوده إيمانه من بيته إلى المسجد. يدل على أنه استسلم لأمر الله تعالى، ويقوده إيمانه وإسلامه إلى دفع زكاة ماله، وإلى صيامه -أداء الصيام بدون تأخر- وإلى أداء الحج، وإلى الجهاد في سبيل الله، وإلى غير ذلك؛ فيكون الإسلام هو الأعمال الظاهرة.
وأما الإيمان إذا ذكر مع الإسلام فيكون هو الأعمال الباطنة التي هي أمر العقيدة، وفسروه بالإقرار بالله تعالى؛ الاعتراف بأن الله هو رب العالمين. يعني ربهم كلهم. أي مالكهم والمتصرف فيهم. كلهم خلقه وملكه وتحت تصرفه وتقديره، وكذلك التصديق بأنه هو إلههم؛ الذي تألهه قلوبهم. أي: تحبه وتجله وتعظمه وتخضع له، وتخشع وتتواضع بين يديه، وكذلك أيضا الإيمان بأسمائه وصفاته؛ بأنه موصوف بصفات الكمال، منزه عن صفات النقص. فصفات الكمال كونه مثلا؛ كونه يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة السوداء، ويرى جريان الماء في عروق الشجر، ويرى ويعلم صغائر خلقه صغيرها وكبيرها. يقول بعض الشعراء في ابتهاله إلى ربه:
يا من يرى مـد البعوض جناحه
في ظلمة الليل البهيـم الألْيَــل
ويرى مناط عروقها فـي نحرها
والمخ في تلك العظـام النُّحَّــل
امنن علي بتوبـة تمحـو بهـا
ما قد مضى لي في الزمان الأول

وهذا حق أن الله هو الذي خلق البعوضة. البعوضة الناموسة الصغيرة، ويرى حركة أجنحتها في ظلمة الليل، ويعلم كم في خلقها من عرق، وكم فيها من عظم، ويرى جريان الغذاء في جوفها، ويرى مكان الوطء من أقدامها. قد تقول: هذه بعوضة صغيرة. إذا قبضتها بين إصبعيك وفركتها لم يبق لها جرم؛ لا تحس لها بعظام، فنقول: الذي خلقها جعل لها عظاما.
قال العلماء: إن خلق هذه الناموسة على هيئة خلق الفيل. الفيل هو أكبر أو من أكبر الحيوانات التي نشاهدها، وله خرطوم طويل يتنفس معه، وهذا الخرطوم يلف به طعامه فيرفعه إلى فمه فيأكل، فهذه البعوضة لها خرطوم، لها خرطوم ولكنه محدد، رأسه محدد، وبصرها قوي أقوى من بصرنا، بحيث إنها تبصر المنافذ الرقيقة التي هي مسام البدن؛ التي يخرج منها العرق. العرق يخرج من بدن الإنسان لا يخرج من كل مكان، وإنما يخرج من أماكن رقيقة تسمى المسام، فهذه البعوضة بقوة بصرها تبصر هذا المكان، فتقف عليه وتغرز فيه منقارها الذي هو الخرطوم.
فالحاصل أننا نؤمن بأن الله تعالى يرى كل شيء، ويسمع كل شيء ويعلم كل شيء، وفائدتنا من ذلك مراقبة الله. نؤمن بأسمائه وبصفاته، وننزهه سبحانه عن صفات النقائص. كذلك أيضا نؤمن باليوم الآخر؛ الذي هو البعث بعد الموت. نصدق بأنه يبعث الخلق من قبورهم، وأنه يجمعهم ويجازيهم بأعمالهم؛ إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
ونتيجة هذا الإيمان العمل للآخرة؛ العمل لما بعد الموت ؛ وذلك لأن من آمن وصدق وجزم بأن هناك دارا أخرى، وأن الناس إذا ماتوا يبعثون، وبعد البعث محاسبون ومجزيون بأعمالهم؛ فإنه يعمل لما بعد الموت؛ يعمل للآخرة. وأما إذا ضعف إيمانه فإنه يجعل عمله كله لأمر الدنيا؛ يجعل عمله للدنيا، وينسى الآخرة، كما جاء في بعض الآثار في ذكر أهل آخر الزمان (أنه يأتي عليهم زمان يحبون القصور، وينسون القبور) يعني: ينسون الموت وما بعد الموت.
كذلك من الإيمان: الإيمان برسل الله تعالى؛ أنه أرسلهم إلى الناس لينقذوهم ويخرجوهم من الظلمات إلى النور، وأن خاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم- لا نبي بعده، وكذلك أيضا يؤمنون بكتبه، وأنه أنزل الكتب على الأنبياء، وأن آخرها هذا القرآن؛ الذي أنزله الله على نبينا -صلى الله عليه وسلم- ويؤمنون بالملائكة لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ويؤمنون بالقضاء والقدر، وأن الله علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلا، وأنه لا يخفى عليه شيء من أمورهم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه يدخل في قدرته كل حركة تكون للعباد في هذه الدنيا، فهذا أمر العقيدة.
وإذا ذُكرا جميعا فالإسلام هو الأعمال الظاهرة: أركان الإسلام الخمسة، والإيمان هو الأعمال الباطنة: أركان الإيمان الستة. قد فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- الإيمان بالأعمال الظاهرة. ذكر البخاري في كتاب الإيمان حديث وفد عبد القيس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لهم: آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. فقال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيمون الصلاة، وتؤتون الزكاة، وتؤدون خمس ما غنمتم فسره بالشهادتين وبالصلاة والزكاة وبأداء الخمس من الغنيمة؛ فجعل هذه كلها من الإيمان، ولهذا ترجم لها البخاري يعني: ذكر أحاديث، وذكر تراجم تدل على أن هذه كلها داخلة في مسمى الإيمان.
وقد كتب العلماء -رحمهم الله- في الإيمان كتبا ليبينوا بذلك أنه قول وفعل واعتقاد، وممن كتب فيه من المتقدمين أبو عبيد القاسم بن سلام وهو من علماء اللغة، ولكنه أيضا من علماء الشريعة؛ لغوي وحافظ للأحاديث. له رسالة باسم الإيمان؛ رسالة في الإيمان. طبعت قديما مع غيرها، ثم طبعت مؤخرا. ذكر فيها -رحمه الله- صفة الإيمان، وما يَرِد فيه من الأعمال وما يدخل فيه وما يعترض به عليه، فدل على أنه أحس في زمانه بأن هناك من أخرج الأعمال من الإيمان.
وكتب أيضا أبو بكر بن أبي شيبة -رحمه الله- رسالة أيضا باسم الإيمان، ولكنها آثار. يذكر الباب، ثم يقول: حدثنا فلان قال: حدثنا فلان، ويقتصر على الآثار التي تدل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان.

line-bottom